فصــل
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب) فهو من أصح الأحاديث. وقال أنس: فما فرح المسلمون بشىء بعد الإسلام فرحهم بهذا الحديث، فأنا أحب رسول الله وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أحشر / معهم، وإن لم أعمل مثل أعمالهم، وكذلك (أوثق عرى الإسلام الحب في الله والبغض في الله) لكن هذا بحيث أن يحب المرء ما يحبه الله ومن يحب الله، فيحب أنبياء الله كلهم، لأن الله يحبهم ويحب كل من علم أنه مات على الإيمان والتقوى، فإن هؤلاء أولياء الله، والله يحبهم كالذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وغيرهم من أهل بدر وأهل بيعة الرضوان.
فمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة شهدنا له بالجنة، وأما من لم يشهد له بالجنة، فقد قال طائفة من أهل العلم: لا نشهد له بالجنة ولا نشهد أن الله يحبه، وقال طائفة: بل من استفشى من بين الناس إيمانه وتقواه، واتفق المسلمون على الثناء عليه،كعمر بن عبد العزيز والحسن البصري وسفيان الثوري وأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي [هو أبو محفوظ معروف بن فيروز، وقيل: الفيروزان، وقيل: علي الكرخي الصالح المشهور، وكان أبواه نصرانيين، فأسلماه إلى مؤدبهم، وهو صبي، فكان المؤدب يقول له: قل: ثالث ثلاثة، فيقول معروف: بل هو الواحد، فضربه المعلم على ذلك ضربًا مبرحًا فهرب منه.
وكان أبواه يقولان: ليته يرجع إلينا على أي دين شاء فنوافقه عليه.فرجع فدق الباب فقيل: من بالباب ؟ فقال: معروف، فقيل له: على أي دين ؟ فقال: على الإسلام، فأسلم أبواه، وكان مشهورًا بإجابة الدعوة، توفى سنة مائتين، وقيل: إحدى ومائتين، وقيل غير ذلك. [وفيات الأعيان 5/132-332] وعبد الله بن المبارك ـ رضي الله عنهم ـ وغيرهم، شهدنا لهم بالجنة؛ لأن في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرًا فقال: (وجبت، وجبت)، ومر عليه بجنازة، فأثنوا عليها شرًا، فقال: (وجبت، وجبت) . قالوا: يا رسول الله، ماقولك: وجبت، وجبت؟ قال: (هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرًا فقلت :وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرًا فقلت: وجبت لها النار)، قيل: / بم يا رسول الله ؟ قال: ( بالثناء الحسن، والثناء السيّئ).
وإذا علم هذا فكثير من المشهورين بالمشيخة في هذه الأزمان، قد يكون فيهم من الجهل والضلال والمعاصي والذنوب ما يمنع شهادة الناس لهم بذلك، بل قد يكون فيهم المنافق والفاسق، كما أن فيهم من هو من أولياء الله المتقين، وعباد الله الصالحين، وحزب الله المفلحين، كما أن غير المشائخ فيهم هؤلاء.وهؤلاء في الجنة،والتجار والفلاحون وغيرهم من هذه الأصناف.
إذا كان كذلك فمن طلب أن يحشر مع شيخ لم يعلم عاقبته كان ضالًا، بل عليه أن يأخذ بما يعلم، فيطلب أن يحشره الله مع نبيه والصالحين من عباده. كما قال الله تعالى: وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} [التحريم:4]، وقال الله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}[ المائدة:55، 56]، وعلى هذا فمن أحب شيخًا مخالفًا للشريعة كان معه، فإذا دخل الشيخ النار كان معه، ومعلوم أن الشيوخ المخالفين للكتاب والسنة أهل الضلال والجهالة، فمن كان معهم كان مصيره مصير أهل الضلال والجهالة، وأما من كان من أولياء الله المتقين: كأبي بكر وعمر وعثمان /وعلي وغيرهم، فمحبة هؤلاء من أوثق عرى الإيمان، وأعظم حسنات المتقين.
ولو أحب الرجل لما ظهر له من الخير الذي يحبه الله ورسوله، أثابه الله على محبة ما يحبه الله ورسوله، وإن لم يعلم حقيقة باطنه، فإن الأصل هو حب الله وحب ما يحبه الله، فمن أحب الله وأحب ما يحبه الله كان من أولياء الله.
وكثير من الناس يدعى المحبة من غير تحقيق، قال الله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، قال بعض السلف: ادعى قوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله، فأنزل الله هذه الآية، فمحبة الله ورسوله وعباده المتقين تقتضي فعل محبوباته، وترك مكروهاته، والناس يتفاضلون في هذا تفاضلا عظيمًا، فمن كان أعظم نصيبًا من ذلك، كان أعظم درجة عند الله.
وأما من أحب شخصًا لهواه، مثل أن يحبه لدنيا يصيبها منه، أو لحاجة يقوم له بها، أو لمال يتآكله به، أو بعصبية فيه، ونحو ذلك من الأشياء فهذه ليست محبة لله، بل هذه محبة لهوى النفس، وهذه المحبة هي التي توقع أصحابها في الكفر والفسوق والعصيان، وما أكثر من يدعي حب مشائخ لله، ولو كان يحبهم لله لأطاع الله الذي /أحبهم لأجله، فإن المحبوب لأجل غيره تكون محبته تابعة لمحبة ذلك الغير.
وكيف يحب شخصًا لله من لا يكون محبًا لله، وكيف يكون محبًا لله من يكون معرضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبيل الله. وما أكثر من يحب شيوخًا أو ملوكًا أو غيرهم فيتخذهم أندادًا يحبهم كحب الله.
والفرق بين المحبة لله والمحبة مع الله ظاهر، فأهل الشرك يتخذون أندادًا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبًا لله، وأهل الإيمان يحبون ذلك، لأن أهل الإيمان أصل حبهم هو حب الله، ومن أحب الله أحب من يحبه، ومن أحبه الله، فمحبوب المحبوب محبوب، ومحبوب الله يحب الله، فمن أحب الله فيحبه من أحب الله.وأما أهل الشرك فيتخذون أندادًا أو شفعاء يدعونهم من دون الله، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}[الأنعام:94].
وقال الله تعالى:{وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس:22: 25] وقال الله تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الأنعام:51] وقال الله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}[آل عمران:79، 80].
والله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب؛ ليكون الدين كله لله وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (إنا معشر الأنبياء ديننا واحد) فالدين واحد وإن تفرقت الشرعة والمنهاج قال الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء:25].
وقال تعالى:{ وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45] وقال الله تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل:36].
ومن حين بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم ما يقبل من أحد بلغته الدعوة إلا الدين الذي بعثه به؛ فإن دعوته عامة لجميع الخلائق قال الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ}[سبأ:28].
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار) قال الله تعالى:{وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَـا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قُل يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[الأعراف:156: 158]. فعلى الخلق كلهم اتباع محمد صلى الله عليه وسلم فلا يعبدون إلا الله ويعبدونه بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم لا بغيرها قال الله تعالى:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}[الجاثية: 18، 19] ويجتمعون على ذلك ولا يتفرقون كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم) وعبادة الله تتضمن كمال محبة الله وكمال الذل لله فأصل الدين وقاعدته يتضمن أن يكون الله هو المعبود الذي تحبه القلوب وتخشاه ولا يكون لها إله سواه والإله ما تألهه القلوب بالمحبة والتعظيم والرجاء والخوف والإجلال والإعظام ونحو ذلك.
والله سبحانه أرسل الرسل بأنه لا إله إلا هو فتخلو القلوب عن محبة ما سواه [بمحبته وعن رجاء ما سواه] برجائه وعن سؤال ما سواه بسؤاله وعن العمل لما سواه بالعمل له وعن الاستعانة بما سواه بالاستعانة به؛ ولهذا كان وسط الفاتحة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة:5] قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:(يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال: الله حمدني عبدي. فإذا قال: {الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ} قال: أثنى علي عبدي وإذا قال: {مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال: مجدني عبدي. وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل وإذا قال: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} قال: هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل).
فوسط السورة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فالدين أن لا يعبد إلا الله ولا يستعان إلا إياه والملائكة والأنبياء وغيرهم عباد الله كما قال تعالى: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا}[النساء:172، 173] فالحب لغير الله كحب النصارى للمسيح وحب اليهود لموسى وحب الرافضة لعلي وحب الغلاة لشيوخهم وأئمتهم: مثل من يوالي شيخا أو إماما وينفر عن نظيره وهما متقاربان أو متساويان في الرتبة فهذا من جنس أهل الكتاب الذين آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض وحال الرافضة الذين يوالون بعض الصحابة ويعادون بعضهم وحال أهل العصبية من المنتسبين إلى فقه وزهد: الذين يوالون [بعض] الشيوخ والأئمة دون البعض. وإنما المؤمن من يوالي جميع أهل الإيمان. قال الله تعالى :{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:9]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه) - وقال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).
وقال عليه السلام: (لا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا). ومما يبين الحب لله والحب لغير الله: أن أبا بكر كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم مخلصا لله وأبو طالب عمه كان يحبه وينصره لهواه لا لله. فتقبل الله عمل أبي بكر وأنزل فيه: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17: 21] وأما أبو طالب فلم يتقبل عمله؛ بل أدخله النار؛ لأنه كان مشركا عاملا لغير الله. وأبو بكر لم يطلب أجره من الخلق لا من النبي ولا من غيره؛ بل آمن به وأحبه وكلأه وأعانه بنفسه وماله متقربا بذلك إلى الله وطالبا الأجر من الله.
ورسوله يبلغ عن الله أمره ونهيه ووعده ووعيده قال تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}[الرعد:40]. والله هو الذي يخلق ويرزق ويعطي ويمنع ويخفض ويرفع ويعز ويذل وهو سبحانه مسبب الأسباب ورب كل شيء ومليكه. والأسباب التي يفعلها العباد مما أمر الله به وأباحه فهذا يسلك وأما ما ينهى عنه نهيا خالصا أو كان من البدع التي لم يأذن الله بها فهذا لا يسلك. قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}[سبأ:22، 23] بين سبحانه ضلال الذين يدعون المخلوق من الملائكة والأنبياء وغيرهم المبين أن المخلوقين لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ثم بين أنه لا شركة لهم ثم بين أنه لا عون له ولا ظهير؛ لأن أهل الشرك يشبهون الخالق بالمخلوق. كما يقول بعضهم: إذا كانت لك حاجة استوصي الشيخ فلان فإنك تجده أو توجه إلى ضريحه خطوات وناده يا شيخ يقضي حاجتك وهذا غلط لا يحل فعله وإن كان من هؤلاء الداعين لغير الله من يرى صورة المدعو أحيانا فذلك شيطان تمثل له. كما وقع مثل هذا لعدد كثير.
ونظير هذا قول بعض الجهال من أتباع الشيخ عدي وغيره كل رزق لا يجيء على يد الشيخ لا أريده. والعجب من ذي عقل سليم يستوصي من هو ميت يستغيث به ولا يستغيث بالحي الذي لا يموت ويقوى الوهم عنده أنه لولا استغاثته بالشيخ الميت لما قضيت حاجته. فهذا حرام فعله. ويقول أحدهم إذا كانت لك حاجة إلى ملك توسلت إليه بأعوانه فهكذا يتوسل إليه بالشيوخ.
وهذا كلام أهل الشرك والضلال فإن الملك لا يعلم حوائج رعيته ولا يقدر على قضائها وحده ولا يريد ذلك إلا لغرض يحصل له بسبب ذلك والله أعلم بكل شيء يعلم السر وأخفى وهو على كل شيء قدير. فالأسباب منه وإليه وما من سبب من الأسباب إلا دائر موقوف على أسباب أخرى وله معارضات. فالنار لا تحرق إلا إذا كان المحل قابلا فلا تحرق السمندل وإذا شاء الله منع أثرها كما فعل بإبراهيم عليه السلام. وأما مشيئة الرب فلا تحتاج إلى غيره ولا مانع لها بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وهو سبحانه أرحم من الوالدة بولدها: يحسن إليهم ويرحمهم ويكشف ضرهم مع غناه عنهم وافتقارهم إليه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. فنفى الرب هذا كله فلم يبق إلا الشفاعة. فقال:{وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}[سبأ:23] وقال:{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] فهو الذي يأذن في الشفاعة وهو الذي يقبلها فالجميع منه وحده وكلما كان الرجل أعظم إخلاصا: كانت شفاعة الرسول أقرب إليه. قال له أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله ؟ قال: (من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله).
وأما الذين يتوكلون على فلان ليشفع لهم من دون الله تعالى ويتعلقون بفلان فهؤلاء من جنس المشركين الذين اتخذوا شفعاء من دون الله تعالى. قال الله تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا }[الزمر:43، 44] وقال الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ}[السجدة:4] وقال: { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلًا أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}[الإسراء:56، 57]. قال طائفة من السلف: كان قوم يدعون المسيح والعزير والملائكة فبين الله تعالى أن هؤلاء الملائكة والأنبياء عباده كما أن هؤلاء عباده وهؤلاء يتقربون إلى الله وهؤلاء يرجون رحمة الله وهؤلاء يخافون عذاب الله.
فالمشركون اتخذوا مع الله أندادا يحبونهم كحب الله؛ واتخذوا شفعاء يشفعون لهم عند الله ففيهم محبة لهم وإشراك بهم وفيهم من جنس ما في النصارى من حب المسيح وإشراك به؛ والمؤمنون أشد حبا لله: فلا يعبدون إلا الله وحده ولا يجعلون معه شيئا يحبونه كمحبته لا أنبيائه ولا غيرهم؛ بل أحبوا ما أحبه بمحبتهم لله؛ وأخلصوا دينهم لله وعلموا أن أحدا لا يشفع لهم إلا بإذن الله؛ فأحبوا عبد الله ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم لحب الله وعلموا أنه عبد الله المبلغ عن الله فأطاعوه فيما أمر وصدقوه فيما أخبر ولم يرجوا إلا الله؛ ولم يخافوا إلا الله ولم يسألوا إلا الله وشفاعته لمن يشفع له هو بإذن الله فلا ينفع رجاؤنا للشفيع ولا مخافتنا له وإنما ينفع توحيدنا وإخلاصنا لله وتوكلنا عليه فهو الذي يأذن للشفيع فعلى المسلم أن يفرق بين محبة المؤمنين، ودينهم ومحبة النصارى، والمشركين ودينهم، ويتبع أهل التوحيد والإيمان.
ويخرج عن مشابهة المشركين وعبدة الصلبان. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار ). وقال تعالى {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[التوبة:24] وقال الله تعالى: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[المائدة:54] وهذا باب واسع ودين الإسلام مبني على هذا الأصل والقرآن يدور عليه.
سئل شيخ الإسلام قدس الله روحه
عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة في الفساد؛ وتعلق كل منهم بسبب؛ واستند إلى قول قيل. فمنهم من هو مكب على حضور السماعات المحرمة التي تعمل بالدفوف التي بالجلاجل والشبابات المعروفة في هذا الزمان. ويحضرها المردان والنسوان ويستند في ذلك إلى دعوى جواز حضور السماع عند الشافعي وغيره من الأئمة.
فأجاب: أما السماعات المشتملة على الغناء والصفارات والدفوف المصلصلات: فقد اتفق أئمة الدين أنها ليست من جنس القرب والطاعات بل ولو لم يكن على ذلك كالغناء والتصفيق باليد والضرب بالقضيب والرقص ونحو ذلك فهذا وإن كان فيه ما هو مباح وفيه ما هو مكروه وفيه ما هو محظور أو مباح للنساء دون الرجال.
فلا نزاع بين أئمة الدين أنه ليس من جنس القرب والطاعات والعبادات ولم يكن أحد من الصحابة والتابعين وأئمة الدين وغيرهم من مشايخ الدين يحضرون مثل هذا السماع لا بالحجاز ولا مصر ولا الشام ولا العراق ولا خراسان. لا في زمن الصحابة والتابعين ولا تابعيهم. لكن حدث بعد ذلك: فكان طائفة يجتمعون على ذلك ويسمون الضرب بالقضيب على جلاجل ونحوه [التغبير].
قال الحسن بن عبد العزيز الحراني: سمعت الشافعي يقول: خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن وهذا من كمال معرفة الشافعي وعلمه بالدين فإن القلب إذا تعود سماع القصائد والأبيات والتذ بها حصل له نفور عن سماع القرآن والآيات فيستغني بسماع الشيطان عن سماع الرحمن. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن ) وقد فسره الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما بأنه من الصوت فيحسنه بصوته ويترنم به بدون التلحين المكروه وفسره ابن عيينة وأبو عبيد وغيرهما بأنه الاستغناء به وهذا وإن كان له معنى صحيح فالأول هو الذي دل عليه الحديث فإنه قال: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن يجهر به) وفي الأثر: (إن العبد إذا ركب الدابة أتاه الشيطان وقال له: تغن فإن لم يتغن. قال له: تمن) فإن النفس لا بد لها من شيء في الغالب تترنم به. فمن لم يترنم بالقرآن ترنم بالشعر. وسماع القرآن هو سماع النبيين والمؤمنين والعارفين والعالمين. قال الله تعالى:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} الآية[مريم:58]. وقال: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ} الآية [المائدة:83]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ} الآيتين [الإسراء:107] وقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} الآية[الزمر:23]. وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية[الأنفال:2]. وهذا [السماع] هو الذي شرعه الله للمؤمنين في الصلاة وخارج الصلاة وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا اجتمعوا أمروا واحدا منهم يقرأ والناس يستمعون. ومر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي موسى وهو يقرأ. فجعل يستمع لقراءته. وقال: (مررت بك البارحة وأنت تقرأ. فجعلت أستمع لقراءتك فقال: لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا) أي: لحسنته تحسينا. وكان عمر يقول لأبي موسى: ذكرنا ربنا فيقرأ وهم يستمعون لقراءته. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن مسعود: (اقرأ علي القرآن. فقال: أقرأ عليك وعليك أنزل قال: إني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا بلغت هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا}؟[النساء:41] فقال: حسبك فنظرت فإذا عيناه تذرفان بالدمع) فهذا هو السماع الذي يسمعه سلف الأمة وقرونها المفضلة. وخيار الشيوخ إنما يقولون بهذا السماع. وأما الاستماع إلى القصائد الملحنة والاجتماع عليها. فأكابر الشيوخ لم يحضروا هذا السماع كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والسري السقطي وأمثالهم من المتأخرين: كالشيخ عبد القادر والشيخ عدي بن مسافر والشيخ أبي مدين والشيخ أبي البيان وأمثال هؤلاء المشايخ: فإنهم لم يكونوا يحضرون هذا السماع وقد حضره طائفة من الشيوخ وأكابرهم ثم تابوا منه ورجعوا عنه. وكان الجنيد - رحمه الله تعالى - لا يحضره في آخر عمره. ويقول: من تكلف السماع فتن به ومن صادفه السماع استراح به أي من قصد السماع صار مفتونا وأما من سمع بيتا يناسب حاله بلا اقتصاد فهذا يستريح به. والذين حضروا السماع المحدث الذي جعله الشافعي من إحداث الزنادقة لم يكونوا يجتمعون مع مردان ونسوان ولا مع مصلصلات وشبابات وكانت أشعارهم مزهدات مرققات. فأما [السماع] المشتمل على منكرات الدين فمن عده من القربات استتيب فإن تاب وإلا قتل. وإن كان متأولا جاهلا بين له خطأ تأويله وبين له العلم الذي يزيل الجهل. هذا من كونه طريقا إلى الله. وأما كونه محرمًا على من يفعله على وجه اللهو واللعب لا على وجه القربة إلى الله فهذا فيه تفصيل فأما المشتمل على الشبابات والدفوف المصلصلة فمذهب الأئمة الأربعة تحريمه. وذكر أبو عمرو بن الصلاح أن هذا ليس فيه خلاف في مذهب الشافعي فإن الخلاف إنما حكي في اليراع المجرد مع أن العراقيين من أصحاب الشافعي لم يذكروا في ذلك نزاعا ولا متقدمة الخراسانيين وإنما ذكره متأخرو الخراسانيين. وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الذين يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف على وجه الذم لهم وأن الله معاقبهم. فدل هذا الحديث على تحريم المعازف. والمعازف هي آلات اللهو عند أهل اللغة وهذا اسم يتناول هذه الآلات كلها. ولهذا قال الفقهاء: أن من أتلفها فلا ضمان عليه إذا أزال التالف المحرم وإن أتلف المالية ففيه نزاع ومذهب أحمد المشهور عنه. ومالك أنه لا ضمان في هذه الصور أيضًا وكذلك إذا أتلف دنان الخمر وشق ظروفه وأتلف الأصنام المتخذة من الذهب كما أتلف موسى عليه السلام العجل المصنوع من الذهب وأمثال ذلك.وسئل عمن يؤاخي النسوان ويظهر شيئا من جنس الشعبذة؛ كنقش شيء من القطن أو الخرقة باللاذن أو بغير ذلك أو يمسك النار مباشرة بكفه أو بأصابعه بلا حائل بينه وبينها. إلخ. فأجاب: وأما مؤاخاة النساء وإظهار الإشارات المذكورة؛ فهي من أحوال إخوان الشياطين وأصحاب هذه الإشارات ليس فيهم ولي لله بل هم بين حال شيطاني ومحال بهتاني من حال إبليس ومحال تلبيس. وهؤلاء أصل حالهم أن الشياطين تنزل على من يعمل ما يحبه الشيطان من الكذب والفجور فإذا خرج أحدهم عن العقل والدين وصار من المتهوكين - الذين يطيعون الشيطان ويعصون الرحمن. وله شخير ونخير كأصوات الحمير يحضر أحدهم السماع ويؤاخون النسوان ويتخذون الجيران ويرقصون كالقرود وينقرون في صلاتهم الركوع والسجود. يبغضون سماع القرآن واتباع شريعة الرحمن - تنزلت عليهم الشياطين التي تنزل على كل أفاك أثيم؛ فمنهم من ترفعه في الهواء ومنهم من تدخله النار ومنهم من يمشي ومعه ضوء يريه أن ذلك كرامات ومنهم من يستغيث بالشيخ ويخاطب من يستغيث بالشيخ حتى يرى أن ذلك كرامة للشيخ ومنهم من يحضر طعاما وفاكهة وحلوى إلى أمور أخرى قد عرفناها وعرفنا من وقعت له هذه الأمور وأضعافها. فإذا تاب الرجل والتزم دين الإسلام وصلى صلاة المسلمين وتاب عما حرمه رب العالمين واعتاض بسماع القرآن عن سماع الشيطان ذهبت تلك الأحوال الشيطانية فإن قوي إيمانه حصلت له مقامات الصالحين وإلا كفاه أن يكون من أهل جنة النعيم وهذا بين يعرف المسلم أن هذه الأحوال شيطانية لا كرامات إيمانية. وسئل عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة من الفساد ومنهم من يقول: إن غاية التحقيق وكمال سلوك الطريق ترك التكليف. بحيث أنه إذا ألزم بالصلاة يقوم ويقول: خرجنا من الحضرة ووقفنا بالباب. فأجاب: أما من جعل كمال التحقيق الخروج من التكليف. فهذا مذهب الملاحدة من القرامطة والباطنية ومن شابههم من الملاحدة المنتسبين إلى علم أو زهد أو تصوف أو تزهد يقول: أحدهم إن العبد يعمل حتى تحصل له المعرفة فإذا حصلت زال عنه التكليف ومن قال: هذا فإنه كافر مرتد باتفاق أئمة الإسلام فإنهم متفقون على أن الأمر والنهي جار على كل بالغ عاقل إلى أن يموت قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]. قال الحسن البصري: لم يجعل الله لعمل المؤمن غاية دون الموت؛ وقرأ هذه الآية. و[ اليقين] هنا ما بعد الموت. كما قال تعالى في الآية الأخرى: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ}[المدثر:46، 47] ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (لما مات عثمان بن مظعون: أما عثمان فإنه أتاه اليقين من ربه) وقد سئل الجنيد بن محمد - رحمه الله تعالى - عمن يقول: إنه وصل من طريق البر إلى أن تسقط عنه الأعمال. فقال: الزنا والسرقة وشرب الخمر خير من قول هؤلاء ولقد صدق الجنيد - رحمه الله - فإن هذه كبائر وهذا كفر ونفاق والكبائر خير من الكفر والنفاق. وقول الواحد من هؤلاء: خرجنا من الحضرة إلى الباب كلمة حق أريد بها باطل فإنهم خرجوا من حضرة الشيطان إلى باب الرحمن كما يحكى عن بعض شيوخ هؤلاء: أنهم كانوا في سماع فأذن المؤذن فقام إلى الصلاة. فقال: كنا في الحضرة فصرنا إلى الباب ولا ريب أنه كان في حضرة الشيطان فصار على باب الرحمن أما كونه أنه كان في حضرة الله فصار على بابه؛ فهذا ممتنع عند من يؤمن بالله ورسوله فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (بأن العبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد) وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن). وفي الصحيح عن ابن مسعود. عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه سئل: أي الأعمال أفضل ؟ قال: الصلاة على مواقيتها) وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أول ما يحاسب عليه العبد من عمله صلاته) وآخر شيء وصى به النبي صلى الله عليه وسلم أمته الصلاة وكان يقول: (جعلت قرة عيني في الصلاة ) وكان يقول: (أرحنا يا بلال بالصلاة ) ولم يقل أرحنا منها فمن لم يجد قرة عينه وراحة قلبه في الصلاة فهو منقوص الإيمان. قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ}[البقرة:45]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله).
وهذا باب واسع لا ينكره من آمن بالله ورسوله.